نادي الفكر المغربي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
نادي الفكر المغربي

الرأي و الرأي الاخر
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 في مفهوم العقلانية.. إشكال الدلالة وتنازع المواقف

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
treuaman1

treuaman1


المساهمات : 23
تاريخ التسجيل : 15/05/2008

في مفهوم العقلانية.. إشكال الدلالة وتنازع المواقف Empty
مُساهمةموضوع: في مفهوم العقلانية.. إشكال الدلالة وتنازع المواقف   في مفهوم العقلانية.. إشكال الدلالة وتنازع المواقف Emptyالأحد يونيو 01, 2008 12:21 pm

د. الطيب بوعزة

وهذا المسلك في خلط المفاهيم يسقط فيه العديد من الكتاب ويتناسون في غمرة الانفعال – و لا أقول التفكير- أن تصورهم هذا يعطي انطباعا سيئا، حيث قد يوحي عند المتلقي بأن الإسلام مناقض أو مخالف لفعالية العقل والتفكير، مع أن هذا الدين في نص وحيه القرآني الكريم كله مناداة للعقل والفكر وتحفيز على الاستفهام والنظر، وذم لتعطيل وظيفة التعقيل.

والبعض الآخر يأخذ بالعقلانية وينادي بها بوصفها التوجه الفكري القادر على حل إشكالات تخلف الواقع والوعي، وتحقيق الاستنارة والنهوض، متخذا العقلانية مرجعية لنقد الحقائق الدينية متعصبا لمقولات هي أصلا محل خلاف حتى داخل سياق الفلسفة العقلانية ذاتها! بل أنتجت عنها مراجعات نقدية جذرية، بينت محدوديتها وسقوطها في وهم الإطلاق الوثوقي.

ولهؤلاء وأولئك أقول ليس ثمة عقلانية واحدة بل عقلانيات متعددة مختلفة، ومن ثم يخطئ من يحسبها أو يعاملها بوصفها مذهبا متجانسا فيحكم عليها بحكم واحد جاهز، سواء كان هذا الحكم بالقبول أو بالرفض. ولذا أرى أن هذين الموقفين يحملان مقدارا غير قليل من التوهمات والاختلالات المنهجية والمعرفية، وذلك نابع في تقديري من سوء فهم لمدلول العقلانية من جهة وعدم إدراك لتعدد أنماطها من جهة ثانية، وما كان لسوء الفهم إلا أن ينتهي إلى سوء الحكم؛ فهنا تصح المقولة المنطقية القديمة "إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره". ولذا يصبح التحديد الدلالي لمفهوم العقلانية، والوعي بتعدد أنماطها الابستملوجية والمذهبية مقدمة تصورية لها أولوية منطقية على إنتاج الأحكام! ومن ثم فوضعية سؤال العقلانية في واقعنا العربي يحتاج إلى تغيير ينقله من مطلب تحديد الموقف (مع العقلانية أو ضدها)، إلى وضعية سؤال دلالي يتم فيه الوعي بمعنى منفتح للعقلانية وإدراك لتعدد أنماطها.

وإذا انتقلنا إلى السياق الثقافي الغربي سنلاحظ أن العقلانية ترتبط على نحو وثيق بالمشروع الحداثي. إذ من المعلوم أن الحداثة تتأسس على محورية وأولوية الكوجيتو ( أي العقل بوصفه ذاتا مفكرة)، الذي وضعه ديكارت كمرجعية إبستملوجية للحقيقة ومصدرا لها ومعيارا لقياسها. من هنا كانت الحداثة من حيث أساسها المعرفي عقلانية. وقد أدرك نقادها اللاحقون، الذين سيدفعون في اتجاه تأسيس التوجه ما بعد الحداثي، أن تجاوز الحداثة يستلزم تجاوز العقلانية أيضا، فكان المقصد الأساس للمشروع الحداثي هو الكشف عن محددات العقل، وشروطه، سواء الاقتصادية (ماركس)، أو النفسية اللاواعية (فرويد)، أو اللغوية ( رولان بارت)... وذلك من أجل استنزاله – أي العقل - من مقام السيادة التي رفعته إليه فلسفة الحداثة.

ومن الملاحظ أن النقاش السائد اليوم غالبا ما يطرح إشكال الحداثة مرتبطا ومقترنا بإشكال العقلانية، فيحرص المدافعون عن المشروع الحداثي على تصوير الرافض له رافضا للعقلانية وما يرتبط بها من قيم.هذا مع حسبان العقلانية الحداثية هي النمط الوحيد للعقلنة، وهو الخلل الكامن في تصور الكثيرين للعقلانية، وهو ما نطمح إلى تصحيحه في هذا البحث. حيث أن الفرضية التي نسعى لتوكيدها في هذه السطور هي أن نمط العقلانية الذي أفرزته الحداثة الغربية ليس هو النمط الوحيد، بل ثمة أنماط عقلانية متعددة، ومن ثم فالموقف الجاهز من العقلنة، هكذا بإطلاق، - سواء كان موقفا مضادا أو مدافعا – يسقط في خطأ الاختزال؛ لأنه يختصر العقلانية في نموذج أو نمط معرفي واحد هو الذي أسسته الحداثة، بينما الصحيح هو أن العقلانية ليست مثالا أو جوهرا أفلاطونيا ثابتا، بل هي إطار نظري يقبل حمولات دلالية متعددة تصطبغ بالسياق الثقافي الذي تصدر عنه.

وللاستدلال على فرضيتنا هذه وبيان قيمتها الدلالية والإجرائية نبدأ أولا بالتحديد الدلالي:

في تعدد دلالة العقلانية:

هناك اختلاف كبير في تحديد مدلول العقلانية، بل لاحظت أن الموسوعات الفلسفية هي ذاتها قد أسهمت أحيانا – بحكم تمذهبها – في تعميق الالتباس! فإذا كان "معجم الفلسفات الكبرى" الذي ألفه نخبة من الباحثين تحت إشراف لوسيان جيرفانون يعرف العقلانية بكونها "هي الفلسفة ذاتها"(2)؛ فإن "المعجم الفلسفي" الماركسي سيحددها بوصفها مجرد مذهب في نظرية المعرفة يتسم بالضيق والمحدودية، و لا ينسى أن يختتم بنغمة مؤدلجة قائلا: "إن ضيق العقلانية قد تم تجاوزه بواسطة الماركسية"(3).

بل نجد للأسف حتى بعض التحديدات القاموسية المتخصصة تنزلق أحيانا في مسالك منهجية مستهجنة بالمعايير العلمية للمعاجم.وللتدليل على ذلك أحيل على الباحث كودوسF.Khodoss كاتب مقالة الـ"عقلانية" في أكبر موسوعة فلسفية فرنسية (الموسوعة الفلسفية الشاملة) التي يقدمها أصحابها بوصفها موسوعة مكتوبة خصيصا للفلاسفة وليس للجمهور العادي! نجده في بدء مقالته يشير إلى أن اللفظ لفظ سجالي، وهذا ما لا نخالفه فيه، لكنه بعد تقريره لسجالية المفهوم نراه يقترح أسلوبا سائبا في مقاربته وتحديده! حيث يقول: من الأفضل تحديد العقلانية بالرجوع إلى ما يقوله "من يساجلون بها ومن يساجلون ضدها"!!(4). وأرى أن هذا المسلك الذي اختاره هذا الباحث مسلك سائب مائع لا ناظم له من الناحية المنهجية، وعندما نرفضه ليس لأنه يخالف المقاييس والأعراف المعجمية، بل لأنه لن يخلص إلا إلى زيادة المفهوم التباسا وغموضا؛ لأن الارتكاز على ما يقوله المساجلون بالعقلانية وضدها لن يمنحنا الوضوح المفاهيمي المطلوب، بل سيزيد الحقل الدلالي للمفهوم تشظيا والتباسا. لكن ثمة أمرا هاما لابد من الانتباه إليه في مسلك كاتب مقالة "عقلانية" في هذه الموسوعة الفرنسية المتميزة، وهي أن انصرافه إلى الإيغال في أقوال المساجلين باسم العقلانية والمساجلين ضدها، إن كان لن يساعد على إدراك مدلولها، فإنه يؤكد تباين أطروحات العقلانية، ويفيد في بيان تعدد أنماطها واختلاف المواقف منها؛ ففي مسلكه المنهجي دلالة على ما قلناه من قبل وهو أن العقلانية ليست مذهبا متجانسا ولا نمطا معرفيا واحدا.

وفي "القاموس الجديد للدراسات الفلسفية" لسيلفان أورو و إيفون فايل يتم تحديد لفظ العقلانية بمعنيين: "كل مذهب يشرط المعرفة بالعقل". والمعنى الثاني هو "كل مذهب يرى أن المعارف المقبولة هي فقط تلك التي تأتي من العقل"(5).

وإذا كان هذا المعجم سواء في دلالته الأولى أو الثانية يحرص على تقديم العقلانية بوصفها "مذهبا" فإن جيل غاستون غرانجي يشير،في مقالته "عقلانية" بموسوعة أونيفرساليس، إلى أن (لفظ "العقلانية"، بمعناه العام، لا يشير حقا إلى مذهب، مثلما هو الحال بالنسبة لألفاظ "المثالية"، و"الواقعية"، و"التجريبية"). ولذا فالمسلك الذي يراه ممكنا في تحديدها هو "جعل العقلانية مخالفة للاعقلانية"(6)، وبناء على هذا الخيار المنهجي الذي سلكه غرانجي يمكن أن نقول إنه من ناحية التوصيف المنطقي فإن التعريف الذي يراه ممكنا إنجازه للعقلانية ليس حدا بل "تعريفا بالسلب"، ومعلوم في المراتب المنهجية للتعاريف أن التحديد بالسلب يحتل مرتبة هابطة في السلم المنهجي للتعريف من الناحية المنطقية. ولست أقول بإمكان التحديد الماهوي بل إذ أشير الى تفاضل المراتب المنطقية للتعاريف، فذلك لأنني أريد التنبيه إلى أن لجوء غرانجي إلى نمط التعريف بالسلب دلالة على تعذر واستعصاء التحديد المباشر للمفهوم.

ومما يجدر ذكره لتوكيد تعددية أنماط العقلانية أن غرانجي يذهب في تعريفه إلى جواز وصف مذاهب واتجاهات فلسفية جد متباينة بأنها كلها عقلانية، حيث يضم تحت هذا المسمى الأفلاطونيين والأرسطيين والأبيقوريين والرواقيين، وحتى البيرونيين!! وهذا دليل عنده على اتساع المفهوم وعدم مذهبيته.

أما في "المعجم الفلسفي" العربي فنجد جميل صليبا يميز بين نمطين من العقلانية سماهما مطلقة ونسبية، ولتحديد البعد الابستملوجي للعقلانية يقول: "القول إن المعرفة تنشأ عن المبادئ العقلية القبلية والضرورية لا عن التجارب الحسية، لان هذه التجارب لا تفيد علما كليا". و"القول إن وجود العقل شرط في إمكان التجربة، فلا تكون التجربة ممكنة إلا إذا كان هناك مبادئ عقلية تنظم معطيات الحس". "فإذا عددت هذه المثل وتلك المعاني والصور شرطا ضروريا وكافيا لحصول المعرفة كانت العقلانية مطلقة، وإذا عددتها شرطا ضروريا فقط كانت العقلانية نسبية"(7).

ومن الملاحظ في هذا التعريف أن العقلانية تقابل التجريبية في حقل "نظرية المعرفة"، وهذا التقابل هو ما تحرص الأبحاث الكلاسيكية على توكيده. فالتوجه الفلسفي الحسي يعتقد بكون الحواس المصدر الأساس للمعرفة، بينما الفلسفات العقلانية بدءا من أفلاطون والى ديكارت ولايبنتز ومالبرانش... هي على الرغم من تبايناتها الكثيرة تلتقي في نقد التوجه الفلسفي الحسي والتقليل من القيمة الابستملوجية لوظيفة الحواس في تأسيس المعرفة.

ومن هنا يمكن أن أنتهي إلى حكم قد يثير استغراب الكثيرين، وهو أنه انطلاقا من نمط العقلانية المطلقة، التي تعتد بالعقل وحده كمصدر للمعرفة ولا تأخذ بالمعرفة الحسية، فإن العلم التجريبي ورموزه مثل بن الهيثم وجاليليو وفرنسيس بيكون... هم علماء وفلاسفة لاعقلانيون!! وفي هذا السياق يصبح نعت اللاعقلانية ليس مرادفا للخرافة – كما هو الحال عند التصور الاختزالي الشائع - بل يمكن أن يطلق على النزعة العلمية التجريبية أيضا، فتصبح برسم هذا التحديد الدلالي نزعة لاعقلانية!!

إن هذا التعقيد الذي يسم المفهوم، وهذا التباين الشديد الذي يشهده واقع السجال حول مسألة العقلانية، سواء في الواقع الغربي أو في واقعنا العربي، والخلاف الشديد في تحديد دلالة المفهوم، يستلزم أولا من الباحث أن يحترس من إطلاق الأحكام الاختزالية الجاهزة، ويحرص على بناء دلالة قادرة على استيعاب تعدد ألوان المفهوم.

فلنحاول في سطورنا التالية معاودة النظر في سؤال العقلانية بقصد تحديد دلالتها على نحو يسمح باستيعاب تعدد أنماطها.

نحو تحديد مفهوم العقلانية

نهدف فيما يلي إلى تحديد دلالي للمفهوم ، يُمَكننا من الناحية الإجرائية من إنجاز مطلبين اثنين هما: الإمساك بمعنى المفهوم من جهة، وثانيا استيعاب تعدده الفلسفي والمذهبي من جهة أخرى.

وفي هذا السياق أقول يمكن أن نعرف العقلانية بكونها توجها معرفيا يعتقد بأولوية العقل؛ ثم تتفرع من بعد ذلك إلى توجهات فلسفية متباينة ومختلفة، يمكن أن نختزلها في توجهين رئيسين هما: اتجاه يعترف بوجود مصادر أخرى للمعرفة وإن أعطى للعقل مرتبة أولى. ومن هنا تصبح الأولوية بمعنى إبستمولوجي ينحصر في ترتيب مصادر المعرفة. واتجاه ينكر أن يكون ثمة مرجعا أو مصدرا معرفيا غير العقل، فتصير الأولوية عنده أوحدية. بمعنى أننا نختزل الاتجاهات العقلانية في اتجاهين رئيسين هما اتجاه الأولوية، واتجاه الأوحدية.

لكن هذا النمط الإبستملوجي العقلاني الذي يدفع بأولوية العقل إلى حد إلغاء غيره من مصادر المعرفة، الذي نجد نموذجه الصريح في نظرية المثل الأفلاطونية - رغم قول أفلاطون بالجدل الصاعد الذي يعطي للحس دورا في بناء المعرفة كدور هامشي غير مؤسس؛ لأنه لا يتجاوز التذكير بمدلوله الابستملوجي الأفلاطوني -، وكذا في غالبية فقرات ونصوص ديكارت، لم يكن ليستمر مهيمنا في تاريخ الفكر الفلسفي، ومن ثم فإذا جعلناه مرادفا للعقلانية والمعبر الوحيد عنها، فقد سقطنا في اختزال لا يخلو من اعتساف واضح. حيث أن صيرورة تطور الفكر الفلسفي خلص بالعقلانية إلى مراجعة موقفها الاختزالي لمصادر المعرفة. لكن قبل تناول هذه المراجعة أشير،في سياق المقارنة، إلى أنه إذا كانت العقلانية الدوغمائية الواثقة ثقة مطلقة في العقل قد اقتصرت عليه بوصفه مصدرا وحيدا للمعرفة، فإن ثمة فلسفة حسية تماثلها في النزوع الإطلاقي الأحادي، وكمثال على ذلك يمكن أن نشير إلى موقف الفيلسوف الإنجليزي دفيد هيوم الذي نراه قد ذهب - أكثر من جون لوك - في تقدير الحس، معتبرا إياه مصدر المعرفة الوحيد، بدعوى أن لا شيء في العقل إلا وقد سبق وجوده في التجربة، وبذلك أزال هيوم عن العقل أي دور بنائي في عملية تكوين المعرفة، واضعا ما سماه بقوانين التداعي (التشابه، الاقتران في المكان والزمان، والعلية)، وهي قوانين ليست آتية من العقل و لا مفطورة فيه بل هي، حسب هيوم، مجرد عادات ذهنية تكونت فيه بفعل التجربة. ولذا يصبح المصدر والمرجع الوحيد للمعرفة هو الحس.

لكن الموقف العقلي القائل بكون العقل مصدرا وحيدا للمعرفة، ومقابله أي الموقف التجريبي القائل بكون الحواس هي المصدر الوحيد سيتعرضان لنقد صارم خلال تطور الفكر الفلسفي والعلمي كشف عن اختلالهما. وما الفلسفة الكانطية إلا علامة على مراجعة مزدوجة للعقلانية والتجريبية معا، وتوكيد على ضرورة الوصل بين العقل والحس، حيث انتقد كانط الوثوقية الديكارتية والفلسفة التجريبية على حد سواء، مؤكدا أن المعرفة حصيلة بناء يشترك في إنجازه الفهم بمقولاته القبلية والحس بإطاريه القبليين المتمثلين في المكان والزمان.

وعلى الرغم من اختلال فلسفة كانط القائم على الفصل بين الوجود والماهية، وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة التي لحقت بها بدءا من فيشته وهيجل فإن تأثيرها ظل حاضرا في الفكر الفلسفي الأوربي. فالموقف الكانطي المنادي باحتياج العقلانية والتجريبية إلى التكامل نجد له تقديرا خاصا في الفكر العلمي المعاصر، فالإبستملوجي الفرنسي باشلار – في تقديري- يعبر هو أيضا عن ضرورة تكامل العقلانية والتجريبية، وذلك عندما يطرح العقلنة بوصفها "تركيبا أو بالأحرى حوارا بين النظرية والتجربة"، و"عقلانية تطبيقية"(Cool. وهذا ما يشير إليه ايضا الفيلسوف غرانجي عندما يحدد معنى أن يكون المرء عقلانيا في اللحظة الفلسفية والعلمية المعاصرة بـ:"إعطاء دور مقدر لما نعرفه بالتجربة عن طريق الحواس. أما افتراض إمكان إعادة بناء كليا لمعرفتنا عن العالم بواسطة فكر مجرد فهو ليس موقفا مقبولا اليوم"(6).


وبهذا يصح القول مع الكثير من مؤرخي الفكر الفلسفي أن العقلانية المعاصرة قد تراجعت عن التوجه الإطلاقي المغلق في العقل وحده. فلم تعد العقلانية في إطلاقها المعاصر تفيد الزعم بكون العقل مصدرا وحيدا للمعرفة، بل ثمة اعتدال واعتراف بمحدودية العقل واحتياجه إلى غيره.

وتأسيسا على ما سبق نقول: إن العقلانية موقف فلسفي يقوم على ما يمكن أن نسميه بثنائية "العقل العارف، والعقل المحايث". فالعقل المحايث هو العقل الكامن في الوجود، بمعنى أن الفرضية الأساس في الفلسفة العقلانية هي أن الوجود منتظم على نحو معقول. ومعقولية الوجود هي الشرط الأساس للمكون الأول من الثنائية أي العقل العارف؛ فلا يكون العقل عارفا إلا لأن الموجود قابل للمعرفة، ولا يكون كذلك إلا لأنه معقول. فمعقولية الوجود فرضية أساس إذن في الفكر العقلاني. نقول بهذا رغم نقدنا لبعض المواقف الفلسفية التي انزلقت إلى الزعم بتحديد نهائي لطبيعة معقولية الكون. فمثل هذا الزعم سقوط واضح في الوثوقية. وقد بينت الأبحاث الفيزيائية المعاصرة، خاصة في الحقل الكوانطي، عن زيف ما حدده العقل العلمي الكلاسيكي من قوانين ومحددات لمعقولية الوجود، وأكد أنه مجرد توهم ناتج عن تعميم مخل.

وعود إلى تمييزنا الأول لدلالة العقلانية بين اتجاه الأولوية واتجاه الأوحدية، لنسجل بناء على هذا التمييز الملحوظة التالية:

من الصعب اعتبار العقلانية مذهبا متجانسا وموحدا في المبدأ والتفاصيل والحيثيات المعرفية. ومن ثم فالذين ينساقون إلى إنجاز حكم تعميمي واحد هم مخطئون، وخطأهم كامن في التصور ابتداء، ومنه انتقل إلى الحكم. فالعقلانية تلوينات معرفية وفلسفية عديدة. ومن ثم فالحكم عليها بحكم إجمالي عام هو انزلاق في مزلق التعميم المخل. ولذا فالقول بأن العقلانية مخالفة للدين أو متفقة معه مجرد كلام عائم لا يساوي في معيار التحقيق العلمي أي قيمة معتبرة. فليست العقلانية متفقة ولا مختلفة إنما ثمة أنماط عقلانية متعددة ينبغي تقييم كل واحدة منها على حده، ومعايرتها هي بحد ذاتها.

فالعقلانية هي إطار قابل لان يحمل حمولات مضمونية متعددة، وذلك لسببين:

أولا: لأن العقل ليس جوهرا بل هو فعالية تتكون داخل السياق الثقافي والمجتمعي.

وثانيا: لأنه قابل لأن ينتج عقلانيات متعددة بحسب تعدد السياقات المعرفية والمجتمعية التي تكتنفه. ولأن العقلانية ترتبط بسياقين اثنين: معرفي ومجتمعي، فإن السياق المعرفي والمجتمعي الإسلامي مثلا سينتج حتما عقلانية خاصة به متمايزة عن عقلانية السياق الثقافي الغربي.

كما أن السياق المعرفي له أثره في اختلاف أنماط العقلنة، فالعقلانية المتبلورة داخل السياق المعرفي الأرسطي ليست هي ذات العقلانية المتبلورة داخل السياق المعرفي الرياضي المعاصر مثلا، والعقلانية الصادرة عن العلم الكلاسيكي مغايرة للعقلانية الصادرة عن العلم في لحظته الراهنة.

وبناء على التمييز الذي قدمناه سابقا، وبناء على استحضارنا الموجز لصيرورة تطور المفهوم يتبين أن الحكم على العقلانية لا بد أن يراعي تمايزاتها الدلالية، وتطورها في حقل الفلسفة وابستملوجيا العلوم. فمن ناحية التحديد الفلسفي يجب أن نميز بين مدلولين اثنين: الأول يتمثل في النزوع العقلاني الإطلاقي الذي يعد العقل مصدرا وحيدا للمعرفة، والثاني هو التوجه الفكري الذي يعتد بالعقل بوصفه مصدرا أول للمعرفة، دون أن ينفي غيره من المصادر، وهو الموقف السائد اليوم والأكثر تداولا في الفكر الفلسفي، وليست الدلالة الأولى الإطلاقية؛ فأفلاطون وديكارت... لم يعد لتقليعتهما الفلسفية الوثوقية تداول كبير في الفلسفة العقلانية المعاصرة، بل إن التوجه الفكري المهيمن على الوعي الفلسفي في اللحظة المعاصرة لا هو عقلاني إطلاقي ولا هو عقلاني نسبي، بل هو ينحو منحى اللاعقلانية الرافضة للعقل ذاته. وما نجد من بقايا العقلانية فهي كما قلنا نزعات نسبية تقول بمحدودية العقل واحتياجه إلى غيره من مصادر المعرفة.

ومن ثم فإن الكثير من الأبحاث المتداولة التي تتحدث عن العقلانية، محتفظة بمعناها الديكارتي الإطلاقي، هي أبحاث تغفل عن المراجعات النقدية التي أنجزت في صيرورة تطور الفكر الفلسفي، ويصح أن نحكم عليها بكونها أبعد ما تكون عن إدراك وضعية العقلانية اليوم.

كما أن الأبحاث التي تتخذ العقلانية مرتكزها الوحيد لبناء موقف من الدين وأسئلته الوجودية الكبرى، تغفل عن التحولات المعرفية الهامة التي حصلت في حقل المنطق بدءا من مآزق فتجنشطين وانتهاء بمبرهنة جودل التي تؤكد محدودية النسق العقلاني الصوري وعدم قابليته للتمام.

وتأسيسا على ما سبق فإننا مضطرين إلى أن نقول إن النقاش السائد اليوم حول مسألة العقلانية ينبغي أن يراجع الكثير من المسلمات والمسبقات ليدرك موضوعه أولا قبل أن يحكم عليه!

ــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع:

(1) الشيخ سفر الحوالي من محاضرته "الإيمان بالغيب".

(2) Lucien Jerphanon (sous la direction): "dictionnaire des grandes philosophie" ed Privat 1973 ,p331.

(بيروت 1982، ص90.

(Cool Gaston Bachelard, Bachelard: Le rationalisme appliqué. Paris, PUF, 1962.
في مفهوم العقلانية.. إشكال الدلالة وتنازع المواقف Photottayebbouazza
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
في مفهوم العقلانية.. إشكال الدلالة وتنازع المواقف
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
نادي الفكر المغربي :: Forum Tawassol :: فكر تنويري-
انتقل الى: