بين يدي المحاضرة
قبل أن يفصل المحاضر بين ما وصفه بخطط القراءات النقدية الحداثية، وذلك في معرض الإجابة على السؤال المؤرق التالي: كيف نقرأ القرآن على شرط الحداثة ؟ عرج في البدء على بعض التعريفات المعلومة الخاصة بالحداثة . ومنها كون أخص ما يميز واقع هذه الأخيرة هو أنه عبارة عن سيرورة حضارية لا تنفك تقع صلتها بأسباب الماضي وآثاره، واصفا القراءات الحداثية لآيات القرآن بالتي تسعى إلى أن تندمج في هذه السيرورة الحضارية، بحيث تحقق قطيعة معرفية بينها وبين القراءات "التراثية" التي هي على نوعين: أحدهما القراءات التأسيسية القديمة التي قام بها المتقدمون، مفسرين كانوا أو فقهاء أو متكلمين أو صوفية، والثاني القراءات التجديدية الحديثة التي قام بها المتأخرون، سلفيين إصلاحيين كانوا أو سلفيين أصوليين أو إسلاميين علميين (وخص بالذكر كلا من طنطاوي جوهري ومصطفى محمود ومحمد شحرور) . كما أشار أيضا إلى خاصية مميزة للقراءات التراثية وهو أنها عبارة عن تفسيرات للقرآن لا تنفك تضع للإيمان أسسه النظرية أو تقوي أسبابه العملية أي أنها قراءات ذات صبغة اعتقادية صريحة، أما القراءات الحداثية فهي تفسيرات لآيات القرآن تخرج عن هذه الصفة الإعتقادية، ما دامت لا تريد أن تحصل اعتقادا من الآيات القرآنية، وإنما تريد أن تمارس نقدها على هذه الآيات. ولعل أهم المحاولات الحداثية التي عملت على قراءة بعض الآيات القرآنية على هذا المقتضى الإنتقادي، تلك التي تمثلها قراءة محمد أركون ومدرسته في تونس، ممثلة في عبد المجيد الشرفي وفريقه، وقراءة نصر حامد أبو زيد وطيب تزيني وحسن حنفي، مستفسرا عن الكيفية التي باشرت بها هذه القراءات الحداثية إنجاز مشروعها الإنتقادي.
وبرأي طه عبد الرحمن، فقد اتبعت هذه القراءات في تحقيق مشروعها النقدي استراتيجيات وصفها بخطط انتقادية، كل خطة منها تتكون من ثلاثة عناصر:
- الهدف النقدي الذي تقصد تحقيقه
- الآلية التنسيقية التي توصل إلى هذا الهدف
- العمليات المنهجية التي يتم التنسيق بينها للوصول إلى هذا الهدف.
على أن الهدف الذي تسعى إلى بلوغه كل واحدة من هذه الخطط النقدية يبقى إزالة عائق اعتقادي معين، وهو عين ما يفصله بمنطلقه الرهيب مبرزا الآليات التي تخصها والعمليات التي تتوسل بها في رفع العوائق الإعتقادية.
خطة التأنيس أو الأنسنة
حسب تصنيف المحاضر، تجسد خطة التأنيس (أو الأنسنة) الخطة الأولى التي تنبني عليها القراءة الحداثية، وتستهدف رفع عائق القدسية، ويتمثل هذا العائق في الإعتقاد بأن القرآن كلام مقدس وآلية هذه الخطة في إزالة هذا العائق هي نقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع البشري، ويتم هذا النقل إلى الوضع البشري بواسطة عمليات منهجية خاصة، نذكر منها ما يلي:
- حذف عبارات التعظيم، فالقراءة الحداثية تقوم بحذف العبارات التي يستعملها جمهور المؤمنين في تعظيمهم لكتاب الله مثل: القرآن العزيز أو القرآن الحكيم أو القرآن المبين أو الآية الكريمة أو قال الله تعالى أو صدق الله العظيم.
- استبدال مصطلحات جديدة بأخرى مقررة، حيث يعمد القارئ الحداثي إلى استعمال مصطلحات يضعها من عنده مكان مصطلحات متداولة كأن يستعمل مصطلح "الخطاب النبوي" مكان مصطلح "الخطاب الإلهي" ومصطلح "الظاهرة القرآنية" مكان مصطلح "نزول القرآن".
- التسوية في رتبة الإستشهاد بالقول، وذلك عبر قيام القارئ الحداثي بإنزال الأقوال البشرية منزلة الآيات القرآنية في الإستشهاد، كأن يصدر فصول كتبه بآيات قرآنية مقرونة بأقوال لدارسين من غير المسلمين، بل غير مؤمنين.
- التفريق بين مستويات مختلقة في الخطاب الإلهي، عبر تفريق القارئ الحداثي بين الوحي والتنزيل ويفرق بين الوحي والمصحف كما يفرق بين القرآن والمصحف ويفرق بين القرآن الشفوي والقرآن المكتوب.
- المقارنة بين القرآن والنبي عيسى عليه السلام، حيث يرى القارئ الحداثي أنه كما أن كلمة الله تجسدت في عيسى بن مريم، فكذلك كلام الله تجسد في القرآن، وعلى هذا، فلما كان المسلمون ينفون عن السيد المسيح الطبيعة الإلهية ويثبتون له الطبيعة الإنسانية، فقد وجب عليهم، حسب ظنه (أي القارئ الحداثي)، أن ينفوا عن القرآن الطبيعة الإلهية ويثبتوا له الطبيعة البشرية.
والحال أن تطبيق هكذا عمليات منهجية تأسيسية يؤدي إلى جعل القرآن نصا لغويا مثله مثل أي نص بشري، لكل التبعات الفجة التي تترتب على هذه المماثلة اللغوية، ويلخصها طه عبد الرحمن في النتائج التالية:
- السياق الثقافي للنص القرآني، فالنص القرآني عبارة عن نص تم إنتاجه وفقا لقوانين الثقافة التي تنتمي إليها لغته، ولا يمكن أن يفهم أو يفسر إلا بالرجوع إلى نظام هذه الثقافة.
- الوضع الإشكالي للنص القرآني، ومعلوم أن النص القرآني نص إجمالي وإشكالي ينفتح على احتمالات متعددة ويقبل تأويلات غير متناهية، ولا ميزة لتأويل على غيره، فضلا عن أن يدعي أحدها حيازة الحقيقة أو الإنفراد بها.
- استقلال النص القرآني عن مصدره، حيث ينفصل النص القرآني عن مصدره المتعالي ويرتبط كليا بالقارئ الإنساني، لذلك فلا يقين في إدراك المقاصد الحقيقية للمتكلم المتعالي، ولا داعي إلى طلب المدلول الأصلي لكلامه، وكل ما يقتضيه القارئ من النص إنما هو حصيلة الإستنطاق الذي يمارسه عليه من خلال مرجعيته الثقافية وخلفيته المعرفية ووضعيته الإجتماعية والسياسية.
- عدم اكتمال النص القرآني، لأنه يبدو نصا غير مكتمل، إذ أنه لا يرفع احتمال وجود نقص فيه يتمثل في حذف كلام منسوب إلى المصدر الإلهي، كما لا يرفع احتمال وجود زيادة فيه تتمثل في إضافة كلام منسوب إلى مصدر غير إلهي.
خطة التعقيل أو العقلنة
وعلى غرار خطة الأنسنة، هناك خطة ثانية، لها هدف ولها آليات تنسيقية وضمن هذه الآليات التنسيقية ثمة مجموعة من العمليات، ويترتب عن هذه العمليات مجموعة من النتائج يتعلق الأمر هذه المرة بخطة التعقيل (أو العقلنة) التي هي الخطة الثانية التي تنبني عليها القراءة الحداثية، وتستهدف رفع عائق الغيبية، ويتمثل هذا العائق في الإعتقاد بأن القرآن وحي ورد من عالم الغيب، وآلية هذه الخطة في إزالة هذا العائق هي التعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة، ويتم هذا التعامل بواسطة عمليات منهجية خاصة يذكر منها المحاضر ما يأتي:
- نقد علوم القرآن، حيث اشتغل القارئ الحداثي بنقد علوم القرآن على أساس أن هذه العلوم النقلية أصبحت تشكل وسائط معرفية متحجرة تصرفنا عن الرجوع إلى النص القرآني ذاته كما أنها تحول دون أن نقرأ هذا النص قراءة تأخذ بأسباب النظر العقلي الصريح.
- التوسل بالمناهج المقررة في علوم الأديان، فقد تم نقل مناهج علوم الأديان التي اتبعت في تحليل ونقد التوراة والأناجيل إلى مناهج علم مقارنة الأديان وعلم تاريخ الأديان وتاريخ التفسير وتاريخ اللاهوت.
- التوسل بالمناهج المقررة في علوم الإنسان والمجتمع، وذلك عبر إنزال مختلف مناهج علوم الإنسان والمجتمع على النص القرآني، لا سيما اللسانيات والسيميائيات وعلم التاريخ وعلم الإجتماع وعلم الإناسة.
- استخدام كل النظريات النقدية والفلسفية المستحدثة، ومن ينكر أن القارئ الحداثي لم يتردد في الإستعانة بكل النظريات النقدية التي تسارع ظهورها في الساحة الأدبية الفكرية في النصف الثاني من القرن الماضي، متمثلة في الجدليات والبنيويات والتأويلات والحفريات والتفكيكات والإتجاهات الجديدة في النقد الأدبي وتفكيك الخطاب.
- وأخيرا إطلاق سلطة العقل، عندما قرر القارئ الحداثي أنه لا آية قرآنية تمتنع على اجتهاد العقل، بل لا توجد حدود مرسومة يقف العقل عندها ولا آفاق مخصوصة لا يمكن أن يستطلعها.
وكما تم مع تبعات خطة الأنسنة، يؤدي تطبيق هذه العمليات المنهجية التعقيلية إلى جعل القرآن نصا دينيا مثله مثل أي نص آخر، توحيديا كان أم وثنيا، بتبعات لا تقل فجاعة عن التبعات الخاصة بخطة الأنسنة، وقد حصر المحاضر تبعات هذه المماثلة الدينية الخاصة بخطة العقلنة في النتائج التالية:
- تغيير مفهوم الوحي، حيث يرى القارئ الحداثي أن مفهوم "الوحي" المتداول والموروث عن التصور الديني التقليدي لم يعد من الممكن قبوله، وينبغي أن نستبدل به مفهوما تأويليا يسوغه العقل، صارفا عن الوحي ما لا يعقل من الأساطير والطقوس التي تقترن به، مكتفيا بجانبه المعنوي.
- عدم أفضلية القرآن، حيث يقرر الحداثي أن ما ثبت من الأوصاف والأحكام والحقائق بصدد الكتابين المقدسين ؛ أي التوراة والإنجيل يثبت أيضا بصدد القرآن، بحيث لا سبيل إلى ادعاء أفضليته عليهما.
- عدم اتساق النص القرآني، فالحداثي يرى أن سور القرآن وآياته وموضوعاته وردت بترتيب يخلو من الإتساق المنطقي كما يخلو من الإتساق التاريخي.
- غلبة الإستعارة في النص القرآني، حيث يلاحظ الحداثي أن المجازات والإستعارات تطغى في النص القرآني على الأدلة والبراهين، ويستنتج من ذلك أن العقل الذي ينبني عليه هذا النص هو أقرب إلى العقل القصصي الأسطوري منه إلى العقل الإستدلالي المنطقي، نظرا إلى أن إدراكاته العقلية لا تنفصل عن الخيال والوجدان.
- تجاوز الآيات المصادمة للعقل، حيث يقرر الحداثي أن كل ما يصادم العقل في النص القرآني من حقائق أو وقائع لا يعدو كونه شواهد تاريخية على طور من أطوار الوعي الإنساني تم الآن تجاوزه.