الفعل لا الحديث عن الفعل هو المهم والأهم, والإنجاز لا الحديث عن الإنجاز هو بيت القصيد.
إدوارد سعيد
قبل ثلاثة أيام من الآن, مرت الذكرى الرابعة, لغياب صوت عربي يحمل في أفكاره الرقي الإنساني على أكمل وجه. عاش في الغرب أغلب سنوات عمره, ويتقن الإنجليزية أكثر من العربية, ومع ذلك لم يغب عن ذهنه أنه عربي, يجسد الروح العربية في صميم الثقافة الغربية . في مقابلة له قبل وفاته بعدة أشهر قال إن اللغة العربية لشخص مثله متمكن من لغات عدة هي أجمل لغات العالم, إذ أنها تشكل في بنيتها ومنطقها متوازيات رشيقة جداً, وهي أرسطية البنية والتركيب. عندما كان يلقي محاضرة فكرية له في جامعة أوكسفورد عن الاستشراق, قوبل بتصفيق حاد من الجمهور الذي يضم أساتذة جامعة وأصحاب فكر قدموا من أجله. لم يغتر نظير شهرته التي حطمت الآفاق, بل قال " هذا الرضى الذي أحصل عليه من أحاديثي التي تمتد من أكسفورد إلى كاليفورنيا لا يرضيني! لكن مايرضيني هو أن أتحدث بالعربية في عالمنا العربي "
لمقالاته في الصحف والدوريات البحثية روح حية وجدت لتبقى وتعيش. هي مزيج من التأملات الحية والتحليل والنقد البناء. إن النوع الذي يكتبه هذا المفكر ليس محدد بفترة زمنية, ينقضي بعدها ما كُتب بعد انجلاء عاصفة سياسية أو كارثة. إنه يكتب بعقله لا بعاطفته !
أعتقد أن البعض يعرف هذا المفكر الذي أتحدث عنه. إنه إدوارد سعيد أستاذ الأدب المقارن بجامعة كولومبيا, والمفكر السياسي اللامع صاحب كتاب الاستشراق. معرفتي بإدوارد سعيد ليست بالطويلة جداً. كنت أسمع بعض المفكرين والكتاب يستشهدون بأقواله, لكن في الحقيقة لم أعرف حقيقة من هو هذا الرجل! شاهدت بالصدفة قبل سنة من وفاته محاضرة له في الجامعة الأمريكية في مصر. لم أعرف من هو هذا الرجل الذي يتكلم بهذه البلاغة والسلاسة في الطرح. تابعت المقابلة وأنا معجب بهذا الرجل وبطرحه الساخر الممتع , ولم انتبه إلا قبيل انتهاء المحاضرة أن هذا المفكر هو إدوارد سعيد, المفكر الفلسطيني الذي حطمت شهرته الآفاق, وملئ الدنيا بأفكاره وشغل المفكرين والباحثين. بعد أن تعرفت عليه بعد هذه المقابله بحثت عن كتاباته للتعرف أكثر عن أفكاره وأبحاثه النقدية. وأستطيع القول أن إدوارد سعيد صاحب فضل كبير علي في القراءة . هو الكاتب الذي حول اتجاه قراءتي من الانغماس الحاد في الرواية إلا قراءة الكتب الفكرية والابحاث النقدية.
قرأت له هذه الأيام كتابين. الأول إدوارد سعيد - رواية للأجيال لـ محمد شاهين. الكتاب أشبه بالسيرة الذاتيه لـ إدوارد, لكن محدد بالإطار الفكري , ومحاولة تتبع الإرهاصات الأولى لظهور مؤلفات سعيد الشهيرة مثل البدايات , وكتاب العالم والنص والناقد, والثقافة والإمبريالية, وأخيراً الاستشراق. في هذا الكتاب مقالات كتبها المؤلف عن إدوارد سعيد على مدى عقدين من الزمان، في مناسبات مختلفة، أولى هذه المقالات كتبت في إثر لقاء مع إدوار سعيد صيف عام 1983. حيث يعرض المؤلف لبعض ملامح إدوارد سعيد الشخصية، قبل أن يعرض في المقالات الآخرى لخصائص فلسفته وأدبه إذ يذهب إلى أن إدوارد سعيد هو أول من تحدث عن الاستشراق في كتابه الاستشراق الذي ظهر عام 1978، وهو أول من لم شمله في الشتات وجعل منه أطروحة داعمة ومدعومة خطابها التعمق في طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب بما ينبغي من الجرأة والشجاعة والذكاء التي يتحلى بها العالم الباحث.
استطاع شاهين حسب وجهة نظري في إلقاء الضوء على حياة إدوارد سعيد الفكرية, وبعض المعارك التي خاضها في الجامعات, قبل و بعد تأليفه لأهم كتبه. لمن يفضل قراءة إدوارد هذا الكتاب يقدم سيرة فكرية عن إدوارد بطريقة سهلة وممتعة. أفضل ما ميز هذا الكتاب ذكر بعض المواقف الساخرة لـ إدوارد مع الناقد جلنر. كان جلنر يطلب من إدوارد الصفح وطي صفحة الخلاف الثقافي معه , فرد عليه إدوارد ناعتاً إياه بالجبن ومتوعداً إياه بمحاربته حتى في المؤتمر القادم. لمن لا يفضل القراءة لإدوارد سعيد أنصحه بعدم القراءة.
الكتاب الثاني إدوارد سعيد - مقالات وحوارات لـ محمد شاهين. قرأت في هذا الكتاب مقاله بعنوان " التمنع والتعجب والتعرف. رغم أن المقاله نُشرت عام 1972م في مجلة مواقف اللبنانية, إلا أنها استخدمت كثيراً من قبل المفكرين والباحثين بعد عدة سنوات, ولا تزال حتى الآن لتحليل الأوضاع المزرية التي تفتك العالم العربي, وما أهم الأسباب التي تقف في سبيل النهوض بهذه الأمة؟ والعلاقة بين الشرق والغرب, حضارياً وفكرياً ؟
في بداية المقال يطرح بعض الأسئلة التي قد يتناولها العامة من الناس " لماذا نحن على هذه الحال ؟ عندما يقول المصري أو السوري " نحن " فهو يعني على الأغلب نحن العرب . وهنا نجد أنفسنا إزاء مفارقة كبيرة فنحن أحياناً نتحدى العروبة من مصالح محلية أضيق دون أن يخامرنا الشك بأننا عرب أيضاً . وفوق هذا كله فإننا لانعطي لحياتنا كجماعة أو كأفراد دلالة كبيرة . ألم تفلت منا كل مظاهر المدنية بإستثناء ماكان مبتذلاً ؟ لماذا لانفهم معنى النظام أو الكفاءة أو التقدم أو التخطيط أو العلم أو الإشراق الحضاري ؟ وهل هناك مايحركنا بالفعل غير أمواج الحماسة العابرة ؟ "
من مجموع هذه الأسئلة يطرح إدوارد السؤال الأهم, ماهو الضعف العام الذي يعتري المجتمع العربي والثقافة العربية والحضارة العربية , والذي أبقانا على ما نحن عليه؟ مشكلتنا حسب تعبير إدوارد أننا لانملك مؤسسات أو تقاليد لمعرفة الذات ولا ما يهيء لنا ذلك. إذا كانت اللحظة المأساوية لمعرفة الذات تتصف بالتجمع البطولي والوعي الحاد فإن ملامح تجنبنا لمعرفة الذات تبدو في التشتت المضحك وفي التباعد. ومهما كانت المأساة فإننا نعزل أنفسنا عنها. إننا لا نجابه شيئاً مهما كان حاداً وفضيعاً بل نسارع إلى عائلاتنا وجيوشنا من أجل الدعم والمسامرة حسب تعبيره . إن نظرة سريعة إلى العرب اليوم تبين أن ثقافتهم فشلت في تحديد ذاتها تحديداً كاملاً .
" إنني أعجز عن تفسير هذه الظاهرة مع انني أراها في كل مكان حتى مع نفسي "
لم يشخص أو يعطي إدوارد الأجوبة لكل هذه التساؤلات, كل ما لديه بضعة أسئلة وملاحظات وتأملات تشمل بمجموعها نقداً نفسياً تاريخياً {1} للواقع العربي الراهن , وهناك بضعة أمثلة لذلك النوع من صنع الذات التأملي الذي يمكن أن نبدأ به حسب رؤية إدوارد . بدل أن نقارن أنفسنا بالغرب بلا فائدة ينبغي أن نبحث عن السبب الذي منعنا من إنجاب أمثال كانط أو إبسن أو آينشتاين وتولستوي. إلى أين وكيف تحول طاقاتنا؟ وما دامت الثقافة ليست فعلاً إلهياً ولا مميزاتها حقائق طبيعية, لماذا ظهر ابن خلدون في زمانه ولا يظهر في زماننا؟ ما العلاقة بين ثقافتنا السياسية وبين غياب التقاليد الروائية والدرامية في الأدب العربي ؟ ماذا كانت نتائج التعطيل شبه الكلي لمواهبنا البصرية مقابل المبالغة في تنمية قوانا الشفوية ؟
- في عالم الإتصالات والإنفتاح الهائل في كل المجالات أصبح كل مجتمع إنساني يحدد نفسه على نحوين حسب رؤيته :
أولاً عن طريق تحديد الفارق بينه وبين غيره من المجتمعات, وثانياً بتحديد ميزاته الخاصه وفي الحالة الثانية يكون التفاعل بين الوحدة الثقافية ككل وبين العناصر التي تتكون منها. ومن جدل هذين الضاغطين تتشكل الهوية أو تحديد الذات بقليل من التماسك .
- ينظر الغرب في الشعوب الأصلية أطفالاً مشاكسين ينبغى أن يقسروا في أقنية نظام يفرضه الغرب. الغرب نظر إلى العرب كشيء للإستهلاك, فقد جعل الغرب من العرب مادة تستهلكها الثقافة العدائية النهمة. كان اكتشاف الغرب للثقافة العربية حسب رؤية إدوارد حدثاً يتوقف استمراره على اهتمام الغرب بها. ولقحت الثقافة العربية ببعض مظاهر الثقافة الغربية التي بذرت في كل مكان وشملت المجتمع بأكمله. هذه المظاهر التي انتجت الثقافة العربية ما يماثلها كما تعكس المرايا الصور, انتجت على جميع الأصعدة مؤسسات تفتقر إلى العمق . لهذا نلحظ غياب أي تقليد عربي راسخ من تقاليد الحكومة الحديثة أو الفكر الإقتصادي والسياسي. كان النمط الأبرز للثقافة الأوربية الغربية منذ عصر النهضة هو بصورة عامة المغامرة العدوانية الهائلة في الاستكشاف والارتياد على الصعيدين الجغرافي والانثروبولوجي. والميدان الأول لهذه المغامرة أوروبا نفسها ثم انتقل إلى أمريكا إلى أن شمل كل ما تبقى . أهم ما في هذه الاستكشفات هو الصلة بينها وبين ما طرأ من تحول على المعارف الغربية التي أحدثتها. ونجد هذا النمط في الخطوات العلمية الثلاث الكبرى التي حققتها الثقافة الغربية قبل الحرب العالمية الأولى حسب تعبير إدوارد , وهي الثورة الكوبرنيكية والداروينيه والفرويدية.
" لقد ارتاد كل عالم من علماء هذه الثورات الثلاث أرضاً لا تخصه, أرضاً غريبه بكل معنى الكلمة, فأخضعها وعاد يصب اكتشافه في ثقافته الأم. فكوبيرنيكوس ارتاد عالم الفضاء. وداروين عالم النبات والحيوان, وارتاد فرويد علم اللاوعي. والتغيرات التي نجمت عن ذلك أثرت في الثقافة بأكملها. وقد سمى فرويد هذه التغيرات بالجراح العميقة الثلاثة التي أحدثها الإنسان في الإنسان, إذ أن الإنسان قد اُزيح عن مكانه كمركز للكون إلى موقع متدن كثيراً, وكل ذلك بسبب رحلات الاستكشاف والريادة التي رسختها روح الغزو العدوانية "
- لم تكن هناك دراسة لمظاهر اليقظة العربية التي حملت طابع الغرب, حسناً كان أم سيئاً, إن العرب حسب تعبير إدوارد الذين عاشوا في ظل التأثير الغربي صابرين أم نائمين يلقمون ثيماً غربية ولا يتمثلونها, مروا من وضعهم كضحايا لهذا الاغتصاب إلى حال التكيف معه متذمرين حيناً ونائحين حيناً آخر إلى أن صاروا بالنتيجة أولاد لهذا الإغتصاب, والمقصود بذلك أن الناقد الاجتماعي الذي يلوم الغرب على سياساته الإمبريالية وغزوه الثقافي للعرب هو في معظم الاحيان الشخص نفسه الذي يلوم العرب لأنهم غير متقدمين عى الطريقة الغربية. هكذا نجد كيف تم تبني قيم الثقافة الغربية الإمبريالية تبنياً أعمى حتى كانها قد انتقلت بالوراثة من أب إلى ابن حسب تعبيره.
النقطة التي ركز عليها إدوارد في مقاله هي, لماذا كان التبادل بين الغرب والثقافة العربية سطحياً. هناك ثلاث أسباب رئيسية اثنان منها تتعلق بالغرب وواحد يتعلق بالعرب حسب وجهة نظره .
في الدرجة الأولى نجد أن من طبيعة الروح المتفحص أن يحول كل ما هو غريب عنه إلى صورة عن نفسه, وهذا هو المبدأ الأساسي في النزعة الإنسانية لعصر النهضة, تلك الحركة التي اطلقت المغامرة الأوروبية الرئيسية في عصر المعرفة. ومثال ذلك ما قام به فلاسفة التاريخ في القرن الثامن عشر, عندما رأوا في الشعوب البدائية في آسيا غرباء عن ذرى المدينة الأوروبية الحديثة, يجب تدريسهم كأطفال أوروبيون بحاجة ماسة إلى تربية إنسانية على النمط الأوروبي.
السبب الثاني والأهم لهذا التفاعل السطحي بين العرب والغرب يكمن في أن النمط الأساسي لنقل المعرفة في الثقافة الأوروبية هو نمط التقليد. فالتأثر الهائل لمبدأ المحاكاة في الفكر اليوناني يضاف إليه ازدهار المفهوم اليوناني - اليهودي - المسيحي للوغوس هيأ للثقافة الأوروبية المكتوبة أسلوباً في الإنتشار لا يقاوم.
" إن نظرة سريعة إلى العالم العربي تؤكد انتصار السطحية وضحالة شأنها في تنظيم العرب بصورة فعالة. فالنموذج الغربي الذي يقلده العرب اليوم هو الإقتصاد الاستهلاكي "
إن فرويد, كشأن نيتشه ودستويفسكي, يعلمنا أن ننظر إلى الإنسان كمخلوق يكمن القسم الأكبر من حياته تحت السطح الخادع, سطح العقل والبساطة. مخلوق تكتنفه العقد والرغبات الجنسية البدائية والدوافع الممزقة اللا أخلاقية. مع ذلك فإن فرويد يفرض علينا علماً يتعرف على هذه القوى المظلمة ويحاول بالتالي معالجتها, إن جوهر الإنسان الغربي اليوم وطبيعة واقعه قد تبدلا تبدلاً كاملاً بنتيجة اكتشاف فرويد إلى درجة أننا نتكلم اليوم عن الإنسان السيكولوجي وهو كائن تبدلت جذرياً مفاهيمه عن العقل والزمن والفضاء والتاريخ والثقافة واتخذت صورة أكثر تعقيداً وتحدياً من الصورة التي نعرفها من المستويات التقليدية التي يزودنا بها العقل البسيط, الأحادي البعد. هذا كله حجب عن العربي المعاصر الذي ما زال يعتقد أن ما تعلمه من الغرب وما انفك يتعلمه صحيح تماما: المظاهر هي ما يهم وأن العقل ليس أكثر من كلمة أو شيء كالذراع أو القدم وأن الصحيح هو ما يراه الإنسان وأنه بمجرد أن نحفظ بعض قواعد سريعة يصبح العالم في متناولنا. ولقد حجب هذا عن العربي لأن الثقافة العدائية التوسعية تكتفي بإيصال المستويات السطحية من واقعها, وتستخدمها للتحكم بالأذهان الغربية وتحويلها لخدمة أغراضها. وأفضل طريقة للتصدير هي أن تقنع الآخرين - كما تفعل الرسوم الخادعة بالناظر- بأن مفاهيم كالنظام أو التقدم أو العلم لا تعني إلا ما يدل عليه ظاهر اللفظ لا ما تعنيه عميقا...ذلك أن النظام والعلم والتقدم تنشأ من صراع الثقافة مع القوى الخفية الكامنة فيها, هذه القوى التي تدعم الظواهر فيما تحاربها
السبب الثالث, الثقافة هي في أساسها الفكر الذي تتيحه طاقات اللغة, وفيما يختص بالعربية لا ضرورة لأن يكون المتأمل عربياً أو إسلامياً لكي يدرك الضغط النفسي الهائل على الناطق بالعربية, وهو الضغط الذي يمارسه القرآن الكريم بإعتباره أثراً يسلم الجميع بأنه تجسيد للغة بكاملها, وبالتالي للفكر في اللغة. هكذا تعتبر اللغة ممتازة لأنها لغة ذلك الأثر الأساسي الكلي الأهمية. لادور فيها للصمت أو اللامعقول إذ لا اعتراف بهما ولا تحديد لهما حسب تعبيره.
يتواجد في حياة العربي اليومية لغتان مستويان منفصلان للسلوك اللغوي والعقلي. في المستوى الأعلى نجد قيم اللغة الكلاسيكية المعصومة الثابتة الكاملة. ونجد في الأسفل اللغة الحية الشعبية التي يؤثر فيها التغيير والتاريخ والغزو الأجنبي. ومن المستحيل أن نبالغ حسب قوله في التشدد على دلالة الصدع القائم بين اللغتين. إذ هناك من جهة مناعة لغة كلاسيكية مقترنة دوماً بكلمة الله التي لا تتبدل, ومن جهة آخرى هناك اللغة الدنيوية المفتقرة دوماً بفعل انخراطها الشعبي في التاريخ . إن المشكلة في هذه النقطة كما عبر عنها رينان بقوله " إن ما نعاني منه في الشرق ليس أزمة لغة, بقدر ما هو أزمة هوية اللغة, فنحن نتلكم لغة الغربيين ولم نعد نعرف من نحن. حتى عندما نتكلم العربية فإنما نعبر عن أنفسنا بلغة الآخر! "